فصل: تفسير الآيات (99- 101):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (92- 93):

{وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)}
{وَلاَ تَكُونُواْ} فيما تصنعون من النقض {كالتى نَقَضَتْ غَزْلَهَا} أي ما غزلتْه، مصدرٌ بمعنى المفعول {مِن بَعْدِ قُوَّةٍ} متعلق بنقضت أي كالمرأة التي نقضت غزلها من بعد إبرامه وإحكامِه {أنكاثا} طاقاتٍ نكثتْ فتلَها جمع نِكْث، وانتصابه على الحالية من غزْلَها أو على أنه مفعولٌ ثانٍ لنقضت فإنه بمعنى صيّرت، والمرادُ تقبيحُ حالِ النقض بتشبيه الناقض بمثل هذه الخرقاءِ المعتوهةِ. قيل: هي رَيْطةُ بنتُ سعد بن تيم وكانت خرقاءَ اتخذت مِغزلاً قدرَ ذراعٍ وصَنّارةً مثلَ أصبع وفلكةً عظيمةً على قدرها فكانت تغزِل هي وجواربها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهن فينقُضْن ما غزَلْن {تَتَّخِذُونَ أيمانكم دَخَلاً بَيْنَكُمْ} حالٌ من الضمير في لا تكونوا أو في الجار والمجرور الواقعِ موقعَ الخبر أي مشابهين لامرأة شأنُها هذا حالَ كونِكم متَّخذين أيمانَكم مفسدةً ودخَلاً بينكم، وأصلُ الدخَل ما يدخُل الشيء ولم يكن منه {أَن تَكُونَ أُمَّةٌ} أي بأن تكون جماعة {هِىَ أَرْبَى} أي أزيد عدداً وأوفر مالاً {مِنْ أُمَّةٍ} من جماعة أخرى أي لا تغدُروا بقوم لكثرتكم وقلتهم أو لكثرة مُنابذيهم وقوتهم كقريش، فإنهم كانوا إذا رأوا شوكةً في أعادي حلفائِهم نقضوا عهدَهم وحالفوا أعداءهم {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ الله بِهِ} أي بأن تكون أمةٌ أربى من أمة، أي يعاملكم بذلك معاملةَ من يختبركم لينظر أتتمسكون بحبل الوفاءِ بعهد الله وبَيعةِ رسولِه عليه السلام أم تغترّون بكثرة قريشٍ وشوكتِهم وقلةِ المؤمنين وضعفهم بحسب ظاهر الحال {وَلَيُبَيّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القيامة مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} حين جازاكم بأعمالكم ثواباً وعقاباً.
{وَلَوْ شَاء الله} مشيئةَ قسرٍ وإلجاءٍ {لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحدة} متفقةً على الإسلام {ولكن} لا يشاء ذلك لكونه مزاحِماً لقضية الحِكمة بل {يُضِلُّ مَن يَشَاء} إضلالَه أي يخلق فيه الضلالَ حسبما يصرِفُ اختيارَه الجزئيَّ إليه {وَيَهْدِى مَن يَشَاء} هدايته حسبما يصرِف اختيارَه إلى تحصيلها {وَلَتُسْئَلُنَّ} جميعاً يوم القيامة {عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا، وهذا إشارةٌ إلى ما لُوِّح به من الكسب الذي عليه يدور أمرُ الهداية والضلال.

.تفسير الآيات (94- 96):

{وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)}
{وَلاَ تَتَّخِذُواْ أيمانكم دَخَلاً بَيْنَكُمْ} تصريحٌ بالنهي عنه بعد التضمين تأكيداً ومبالغةً في بيان قبحِ المنهيِّ عنه وتمهيداً لقوله سبحانه: {فَتَزِلَّ قَدَمٌ} عن مَحَجّة الحق {بَعْدَ ثُبُوتِهَا} عليها ورسوخِها فيها بالإيمان، وإفرادُ القدم وتنكيرُها للإيذان بأن زلَلَ قدمٍ واحدة أيَّ قدمٍ كانت عزّت أو هانت محذورٌ عظيم فكيف بأقدام كثيرة {وَتَذُوقُواْ السوء} أي العذابَ الدنيوي {بِمَا صَدَدتُّمْ} بصدودكم أو بصدّكم غيرَكم {عَن سَبِيلِ الله} الذين ينتظم الوفاءَ بالعهود والأيمان، فإن من نقض البَيعةَ وارتدّ جَعل ذلك سنةً لغيره {وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
{وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ الله} أي لا تأخذوا بمقابلة عهدِه تعالى وبَيعةِ رسوله عليه السلام أو آياتِه الناطقة بإيجاب المحافظةِ على العهود والأيمان {ثَمَناً قَلِيلاً} أي لا تستبدلوا بها عرَضاً يسيراً وهو ما كانت قريشٌ يعِدّون ضعفةَ المسلمين ويشترطون لهم على الارتداد من حُطام الدنيا {إِنَّمَا عِنْدَ الله} عز وجل من النصر والتنعيم والثوابِ الأخرويّ {هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} مما يعِدونكم {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي إن كنتم من أهل العلمِ والتمييزِ، وهو تعليلٌ للنهي على طريقة التحقيقِ كما أن قوله تعالى: {مَا عِندَكُمْ} تعليلٌ للخيرية بطريق الاستئنافِ أي ما تتمتعون به من نعيم الدنيا وإن جل بل الدنيا وما فيها جميعاً {يَنفَدُ} وإن جمّ عددُه، وينقضي وإن طال أمدُه {وَمَا عِندَ الله} من خزائن رحمتِه الدنيوية والأخروية {بَاقٍ} لا نفادَ له، أما الأخرويةُ فظاهرةٌ وأما الدنيويةُ فحيث كانت موصولةً بالأخروية ومستتبِعةً لها فقد انتظمت في سِمْط الباقيات.
وفي إيثار الاسمِ على صيغة المضارعِ من الدلالة على الدوام ما لا يخفى، وقوله تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّ} بنون العظمة على طريقة الالتفاتِ تكريرُ الوعد المستفادِ من قوله تعالى: {إِنَّمَا عِنْدَ الله هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} على نهج التوكيدِ القسميِّ مبالغةٌ في الحمل على الثبات في الدين، والالتفاتُ عما يقتضيه ظاهرُ الحال من أن يقال: ولنجزينكم أجركم بأحسن ما كنتم تعملون، للتوسل إلى التعرض لأعمالهم والإشعارِ بعليتها للجزاء أي والله لنجزين {الذين صَبَرُواْ} على أذية المشركين ومشاقِّ الإسلام التي من جملتها الوفاءُ بالعهود والفقرُ، وقرئ بالياء من غير التفاتٍ {أَجْرَهُمْ} مفعولٌ ثانٍ لنجزين أي لنُعطِينّهم أجرَهم الخاصَّ بهم بمقابلة صبرِهم على ما مُنوا به من الأمور المذكورة {بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي لنجزينهم بما كانوا يعملونه من الصبر المذكورِ، وإنما أضيف إليه الأحسنُ للإشعار بكمال حسنِه كما في قوله سبحانه: {وَحُسْنَ ثَوَابِ الأخرة} لا لإفادة قصرِ الجزاءِ على الأحسن منه دون الحسَن، فإن ذلك مما لا يخطر ببال أحد، لاسيما بعد قوله تعالى: {أَجْرَهُمْ} و{لنجزينهم} بحسب أحسنِ أفرادِ أعمالِهم على معنى لنعطينهم بمقابلة الفردِ الأدنى من أعمالهم المذكورة ما نعطيه بمقابلة الفردِ الأعلى منها من الأجر الجزيلِ لا أنا نُعطي الأجر بحسب أفرادِها المتفاوتةِ في مراتب الحسن بأن نجزيَ الحسنَ منها بالأجر الحسَنِ والأحسنَ بالأحسن.
وفيه ما لا يخفى من العُهدة الجميلة باغتفار ما عسى يعتريهم في تضاعيف الصبر من بعض جزَعٍ، ونظمِه في سلك الصبر الجميل، أو لنجزينهم بجزاءٍ أحسنَ من أعمالهم.
وأما التفسيرُ بما ترجح فعلُه من أعمالهم كالواجبات والمندوبات أو بما ترجح تركُه أيضاً كالمحرمات والمكروهات دلالةً على أن ذلك هو المدارُ للجزاء دون ما يستوي فعلُه وتركُه كالمباحات، فلا يساعده مقامُ الحثِّ على الثبات على ما هم عليه من الأعمال الحسنةِ المخصوصة والترغيبِ في تحصيل ثمراتها، بل التعرضُ لإخراج بعض أعمالِهم عن مدارية الجزاءِ من قبيل تحجيرِ الرحمةِ الواسعة في مقام توسيعِ حِماها.

.تفسير الآيات (97- 98):

{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)}
{مَّنْ عَمِلَ صالحا} أي عملاً صالحاً أيَّ عملٍ كان، وهذا شروعٌ في تحريض كافةِ المؤمنين على كل عملٍ صالح غِبَّ ترغيبِ طائفةٍ منهم في الثبات على ما هم عليه من عمل صالحٍ مخصوصٍ دفعاً لتوهم اختصاصِ الأجر الموفورِ بهم وبعملهم المذكور وقوله تعالى: {مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى} مبالغةٌ في بيان شمولِه للكل {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} قيّده به إذ لا اعتدادَ بأعمال الكفرة في استحقاق الثواب أو تخفيفِ العذاب لقوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً} وإيثارُ إيرادِه بالجملة الاسميةِ الحالية على نظمه في سلك الصلةِ لإفادة وجوبِ دوامه ومقارنتِه للعمل الصالح {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياة طَيّبَةً} أما إن كان موسراً فظاهرٌ وأما إن كان معسِراً فيطيب عيشُه بالقناعة والرضى بالقسمة وتوقعِ الأجرِ العظيم كالصائم يطيب نهارُه بملاحظة نعيمِ ليلِه بخلاف الفاجر، فإنه إن كان معسراً فظاهرٌ وإن كان موسراً فلا يدعه الحِرصُ وخوفُ الفوات أن يتهنأ بعيشه {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ} في الآخرة {أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} حسبما نفعل بالصابرين فليس فيه شائبةُ تكرار، والجمعُ في الضمائر العائدةِ إلى الموصول لمراعاة جانبِ المعنى كما أن الإفراد فيما سلف لرعاية جانب اللفظ، وإيثار ذلك على العكس لِما أن وقوعَ الجزاءِ بطريق الاجتماعِ المناسبِ للجمعية ووقوعَ ما في حيز الصلةِ وما يترتب عليه بطريق الافتراقِ والتعاقُب الملائمِ للإفراد، وإذ قد انتهى الأمرُ إلى أن مدار الجزاءِ المذكورِ وهو صلاحُ العمل وحسنُه رُتّب عليه بإلغاء الإرشاد إلى ما به يحسُن العمل الصالح ويخلُص عن شَوب الفساد فقيل: {فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان} أي إذا أردت قراءتَه عبّر بها عن إرادتها على طريقة إطلاقِ اسم المسبّب على السبب إيذاناً بأن المرادَ هي الإرادةُ المتصلةُ بالقراءة {فاستعذ بالله} فاسأله عز جارُه أن يعيذك {مِنَ الشيطان الرجيم} من وساوسه وخطَراتِه كيلا يوسوسَك عند القراءة فإن له هَمّةً بذلك، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان فِي أُمْنِيَّتِهِ} الآية، وتوجيهُ الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخصيصُ قراءة القرآن من بين الأعمال الصالحة بالاستعاذة عند إرادتها للتنبيه على أنها لغيره عليه الصلاة والسلام وفي سائر الأعمال الصالحةِ أهمّ فإنه عليه السلام حيث أُمر بها عند قراءةِ القرآن الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه فما ظنكم بمن عداه عليه السلام وفيما عدا القراءةَ من الأعمال والأمرُ للندب وهذا مذهبُ الجمهور، وعند عطاءٍ للوجوب وقد أخذ بظاهر النظمِ الكريم فاستعاذ عَقيبَ القراءة أبو هريرة رضي الله عنه ومالكٌ وابنُ سيرينَ وداودُ وحمزةُ من القراء، وعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه: قرأتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم، فقال عليه السلام: «قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا أقرأنيه جبريلُ عليه السلام عن القلم عن اللوح المحفوظ».

.تفسير الآيات (99- 101):

{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)}
{أَنَّهُ} الضمير للشأن أو للشيطان {لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ} تسلّطٌ وولاية {على الذين ءامَنُواْ وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي إليه يفوضون أمورَهم وبه يعوذون في كل ما يأتون وما يذرون فإن وسوستَه لا تؤثر فيهم ودعوتَه غيرُ مستجابة عندهم، وإيثارُ صيغةِ الماضي في الصلة الأولى للدِلالة على التحقق كما أن اختيارَ صيغةِ الاستقبالِ في الثانية لإفادة الاستمرارِ التجدّدي، وفي التعرض لوصف الربوبية عِدَةٌ كريمةٌ بإعادة المتوكلين، والجملة تعليلٌ للأمر بالاستعاذة أو لجوابه المنويِّ أي يُعِذْك أو نحوه.
{إِنَّمَا سلطانه} أي تسلّطُه وولايتُه بدعوته المستتبعةِ للاستجابة لا سلطانُه بالقسر والإلجاء فإنه مُنتفٍ عن الفريقين لقوله سبحانه حكايةً عنه: {وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِى} وقد أفصح عنه قولُه تعالى: {على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ} أي يتخذونه وليًّا ويستجيبون دعوتَه ويُطيعونه فإن المقسورَ بمعزل من ذلك {والذين هُم بِهِ} سبحانه وتعالى {مُّشْرِكُونَ} أو بسبب الشيطانِ مشركون إذ هو الذي حملهم على الإشراك بالله سبحانه، وقصُر سلطانه عليهم غِبَّ نفيه عن المؤمنين المتوكلين دليلٌ على أنْ لا واسطة في الخارج بين التوكل على الله تعالى وبين تولي الشيطان وإن كان بينهما واسطةٌ في المفهوم وأن من لم يتوكل عليه تعالى ينتظمُ في سلك مَنْ يتولّى الشيطانَ من حيث لا يحتسب إذ به يتم التعليلُ ففيه مبالغةٌ في الحمل على التوكل والتحذيرِ عن مقابله، وإيثارُ الجملة الفعليةِ الاستقبالية في الصلة الأولى لما مر من إفادة الاستمرارِ التجدّدي كما أن اختيارَ الجملةِ الاسميةِ في الثانية للدلالة على الثبات، وتكريرُ الموصولِ للاحتراز عن توهم كونِ الصلةِ الثانية حاليةً مفيدةً لعدم دخول غيرِ المشركين من أولياء الشيطانِ تحت سلطانِه، وتقديمُ الأولى على الثانية التي هي بمقابلة الصلة الأولى فيما سلف لرعاية المقارَنةِ بينها وبين ما يقابلها من التوكل على الله تعالى، ولو رُوعيَ الترتيبُ السابق لانفصل كلٌّ من القرينتين عما يقابلها.
{وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءايَةً مَّكَانَ ءايَةٍ} أي إذا أنزلنا آيةً من القرآن مكان آية منه وجعلناها بدلاً منها بأن نسخناها بها {والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزّلُ} أولاً وآخِراً وبأن كلاًّ من ذلك ما نزلت حيثما نزلت إلا حسبما تقتضيه الحِكمةُ والمصلحة، فإن كل وقت له مقتضًى غيرُ مقتضى الآخَر، فكم من مصلحة في وقت تنقلب في وقت آخرَ مفسدةً وبالعكس، لانقلاب الأمورِ الداعية إلى ذلك وما الشرائعُ إلا مصالحُ للعباد في المعاش والمعاد، تدور حسبما تدور المصالحُ، والجملةُ إما معترضةٌ لتوبيخ الكفرةِ والتنبيهِ على فساد رأيهم، وفي الالتفات إلى الغَيبة مع إسناد الخبرِ إلى الاسم الجليلِ المستجمِع للصفات ما لا يخفى من تربية المهابةِ وتحقيقِ معنى الاعتراض أو حالية وقرئ بالتخفيف من الإنزال {قَالُواْ} أي الكفرة الجاهلون بحكمة النسخ {إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ} أي متقوّلٌ على الله تعالى تأمر بشيء ثم يبدو لك فتنهى عنه، وحكايةُ هذا القول عنهم هاهنا للإيذان بأن ذلك كَفْرةٌ ناشئةٌ من نزغات الشيطان وأنه وليُّهم {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أي لا يعلمون شيئاً أصلاً أو لا يعلمون أن في النسخ حِكَماً بالغةً، وإسنادُ هذا الحكمِ إلى الأكثر لما أن منهم مَنْ يعلم ذلك وإنما ينكره عِناداً.

.تفسير الآيات (102- 103):

{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)}
{قُلْ نَزَّلَهُ} أي القرآنَ المدولَ عليه بالآية {رُوحُ القدس} يعني جبريلُ عليه السلام أي الروحُ المطهّر من الأدناس البشرية، وإضافةُ الروحِ إلى القدس وهو الطُهْرُ كإضافة حاتم إلى الجود حيث قيل: حاتمُ الجودِ للمبالغة في ذلك الوصفِ كأنه طبعٌ منه، وفي صيغة التفعيلِ في الموضعين إشعارٌ بأن التدريجَ في الإنزال مما تقتضيه الحِكَمُ البالغة {مِن رَبّكَ} في إضافة الربِّ إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من الدلالة على تحقيق إفاضةِ آثارِ الربوبية عليه صلى الله عليه وسلم ما ليس في إضافته إلى ياء المتكلم المبنيةِ على التلقين المحض {بالحق} أي ملتبساً بالحق الثابتِ الموافقِ للحكمة المقتضيةِ له بحيث لا يفارقها إنشاءً ونسخاً، وفيه دَلالةٌ على أن النسخ حق {لِيُثَبّتَ الذين ءامَنُواْ} على الإيمان بأنه كلامُه تعالى فإنهم إذا سمعوا الناسخَ وتدبّروا ما فيه من رعاية المصالحِ اللائقة بالحال رسَخت عقائدُهم واطمأنت قلوبُهم، وقرئ: {ليُثبت} من الإفعال {وَهُدًى وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ} المنقادين لحُكمه تعالى وهما معطوفان على محل ليثبت أي تثبيتاً وهدايةً وبشارةً، وفيه تعريضٌ بحصول أضدادِ الأمورِ المذكورة لمن سواهم من الكفار.
{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ} غيرَ ما نقل عنهم من المقالة الشنعاء {إِنَّمَا يُعَلّمُهُ} أي القرآنَ {بُشّرَ} على طريق البتّ مع ظهور أنه نزّله روحُ القدس عليه الصلاة والسلام، وتحليةُ الجملةِ بفنون التأكيدِ لتحقيق ما تتضمنه من الوعيد، وصيغةُ الاستقبال لإفادة استمرارِ العلم بحسب الاستمرارِ التجدّدي في متعلَّقه فإنهم مستمرون على تفوّه تلك العظيمةِ، يعنون بذلك جبراً الروميَّ غلامَ عامر بنِ الحضرمي، وقيل: جبراً ويساراً كانا يصنعان السيفَ بمكة ويقرآن التوارةَ والإنجيلَ وكان الرسولُ عليه الصلاة والسلام يمرّ عليهما ويسمع ما يقرآنه، وقيل: عابساً غلامَ حويطِب بنِ عبدِ العزى (كان) قد أسلم وكان صاحبَ كتب، وقيل: سلمانَ الفارسي، وإنما لم يصرَّح باسم من زعموا أنه يعلمه مع كونه أدخلَ في ظهور كذبِهم للإيذان بأن مدار خطابهم ليس نسبتَه عليه السلام إلى التعلم من شخص معينٍ بل من البشر كائناً مَنْ كان مع كونه عليه السلام معدِناً لعلوم الأولين والآخرين {لّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ} الإلحادُ الإمالةُ، مِنْ ألحد القبرَ إذا أمال حفرَه عن الاستقامة فحفر في شق منه ثم استُعير لكل إمالةٍ عن الاستقامة فقالوا: ألحد فلانٌ في قوله وألحد في دينه، أي لغةُ الرجلِ الذي يُميلون إليه القول عن الاستقامة أعجميةٌ غيرُ بيِّنةٍ، وقرئ بفتح الياء والحاء وبتعريف اللسان {وهذا} أي القرآنُ الكريم {لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ} ذو بيان وفصاحةٍ، والجملتان مستأنَفتان لإبطال طعنهم، وتقريرُه أن القرآن معجزٌ بنظمه كما أنه معجزٌ بمعناه فإن زعمتم أن بشراً يعلّمه معناه فكيف يعلّمه هذا النظمَ الذي أعجز جميعَ أهل الدنيا والتشبثُ في أثناء الطعن بأذيال أمثالِ هذه الخرافاتِ الركيكة دليلٌ على كمال عجزهم.